فصل: القضاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فقه السنة



.شروط المصالح عنه الحق المتنازع فيه:

ويشترط في المصالح عنه الشروط الاتية:
1- أن يكون مالا متقوما أو يكون منفعة، ولا يشترط العلم به لأنه لا يحتاج فيه إلى التسليم.
فعن جابر أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال: فأتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي ويحلوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم النبي، صلى الله عليه وسلم حائطي، وقال: سنغدو عليك، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة. فجذذتها فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها.
وفي لفظ «أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلم اليهودي ليأخذ ثمرة نخله بالذي له فأبى، فدخل النبي، صلى الله عليه وسلم، النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: جذ له فأوف له الذي له، فجذه بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا وفضلت سبعة عشر وسقا» رواه البخاري.
قال الشوكاني: وفيه جواز الصلح عن معلوم بمجهول.
2- أن يكون حقا من حقوق العباد يجوز الاعتياض عنه ولو كان غير مال كالقصاص. أما حقوق الله فلا صلح عنها.
فلو صالح الزاني أو السارق أو شارب الخمر من أمسكه ليرفع أمر إلى الحاكم على مال ليطلق سراحه فإن الصلح لا يجوز، لأنه لا يصح أخذ العوض في مقابلته. ويعتبر أخذ العوض في هذه الحال رشوة.
وكذلك لا يصح الصلح عن حد القذف لأنه شرع للزجر وردع الناس عن الوقوع في الاعراض، فهو وإن كان فيه حق للعبد ولكن حق الله فيه أغلب.
ولو صالح الشاهد على مال ليكتم الشهادة عليه بحق لله تعالى أو بحق لادمي فإن الصلح غير صحيح لحرمة كتمان الشهادة.
قال تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}. وقال، جل شأنه: {وأقيموا الشهادة لله}. ولا يصح الصلح على ترك الشفعة. كما إذا صالح المشتري الشفيع على شيء ليترك الشفعة فالصلح باطل، لأن الشفعة شرعت لازالة ضرر الشركة ولم تشرع من أجل استفادة المال، وكذلك لا يصح الصلح على دعوى الزوجية.

.أقسام الصلح:

الصلح إما أن يكون صلحا عن إقرار، أو صلحا عن إنكار، أو صلحا عن سكوت.

.الصلح عن إقرار:

والصلح عن إقرار: هو أن يدعي إنسان على غيره دينا أو عينا أو منفعة فيقر المدعى عليه بالدعوى ثم يتصالحا على أن يأخذ المدعي من المدعى عليه شيئا لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه أو بعضه.
قال أحمد رضي الله عنه، ولو شفع فيه شافع لم يأثم، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر فوضعوا عنه الشطر.
وكلم كعب بن مالك فوضع عن غريمه الشطر.
يشير الإمام أحمد إلى ما رواه النسائي وغيره عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فخرج إليهما وكشف سجف حجرته فنادى: «يا كعب قال: لبيك يا رسول الله. قال: ضع من دينك هذا. وأومأ إلى الشطر. قال: لقد فعلت يا رسول الله. قال: قم فاقضه».
ثم إن المدعى عليه إن اعترف بنقد وصالح على نقد فإن هذا يعتبر صرفا ويعتبر فيه شروطه، وإن اعترف بنقد وصالح على عروض أو بالعكس فهذا بيع يثبت فيه أحكامه كلها.
وإن اعترف بنقد أو عرض وصالح على منفعة كسكنى دار وخدمة فهذه إجارة تثبت فيها أحكامها، وإذا استحق المصالح عنه، الحق المتنازع فيه، كان من حق المدعى عليه أن يسترد بدل الصلح لأنه ما دفعه إلا ليسلم له ما في يده.
وإذا استحق البدل رجع المدعي على المدعى عليه لأنه ما ترك المدعى إلا ليسلم له البدل.

.الصلح عن إنكار:

والصلح عن إنكار: هو أن يدعي شخص على آخر عينا أو دينا أو منفعة فينكر ما ادعاه ثم يتصالحا.

.الصلح عن سكوت:

والصلح عن سكوت: هو أن يدعي شخص على آخر ما ذكر فيسكت المدعى عليه، فلا يقر ولا ينكر.
حكم الصلح عن إنكار وسكوت: وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى جواز الصلح عن الانكار والسكوت.
وقال الإمام الشافعي وابن حزم: لا يجوز إلا الصلح عن إقرار.
لان الصلح يستدعي حقا ثابتا ولم يوجد في حال الانكار والسكوت.
أما في حال الانكار فلان الحق لا يثبت إلا بالدعوى وهي معارضة بالانكار، ومع التعارض لا يثبت الحق.
وأما في حال السكوت فلان الساكت يعتبر منكرا حكما حتى تسمع عليه البينة.
وبذل كل منهما المال لدفع الخصومة غير صحيح. لأن الخصومة باطلة، فيكون البذل في معنى الرشوة، وهي ممنوعة شرعا لقول الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون}.
وقد توسط بعض العلماء فلم يمنعه بإطلاق ولم يبحه بإطلاق.
فقال: والأولى أن يقال: إن كان المدعي يعلم أن له حقا عند خصمه جاز له قبض ما صولح عليه.
وإن كان خصمه منكرا وإن كان يدعي باطلا فإنه يحرم عليه الدعوى، وأخذ ما صولح به.
والمدعى عليه إن كان عنده حق يعلمه، وإنما ينكر لغرض وجب عليه تسليم ما صولح عليه.
وإن كان يعلم أنه ليس عنده حق جاز له إعطاء جزء من ماله في دفع شجار غريمه وأذيته.
وحرم على المدعي أخذه. وبهذا تجتمع الادلة: فلا يقال الصلح على الانكار لا يصح، ولا أنه يصح على الاطلاق. بل يفصل فيه.
والذين أجازوا الصلح عن إنكار أو سكوت قالوا: إن حكمه يكون في حق المدعي معاوضة عن حقه.
وفي حق المدعى عليه افتداء ليمينه وقطعا للخصومة عن نفسه.
ويترتب على هذا أن بدل الصلح إذا كان عينا كان في معنى البيع، فتجري عليه جميع أحكامه.
وإن كان منفعة كان في معنى الاجارة فتجري عليه أحكامها.
وأما المصالح عنه فإنه لا يكون كذلك لأنه في مقابلة انقطاع الخصومة وليس عوضا عن مال، ومتى استحق بدل الصلح رجع المدعي بالخصومة على المدعى عليه، لأنه لم يترك الدعوى إلا ليسلم له البدل.
ومتى استحق المصالح عنه رجع المدعى عليه على المدعي لأنه لم يدفع البدل إلا ليسلم له المدعى، فإذا استحق لم يتم مقصوده، فيرجع على المدعي.

.الصلح عن دين المؤجل ببعضه حالاً:

ولو صالح عن الدين المؤجل ببعضه حالا لم يصح عند الحنابلة وابن حزم.
قال ابن حزم في المحلي: ولا يجوز في الصلح الذي يكون فيه إبراء من البعض شرط تأجيل أصلا، لأنه شرط ليس في كتاب الله. فهو باطل.
ولكنه يكون حالا في الذمة ينظره به ما شاء بلا شرط، لأنه فعل خير.
وكرهه ابن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو حنيفة.
وروي عن ابن عباس، وابن سيرين والنخعي: أنه لا باس به.

.القضاء:

العدل هو الغاية من رسالات الله:
إن العدل قيمة من القيم الإسلامية العليا.
ذلك أن إقامة الحق والعدل هي التي تشيع الطمأنينة، وتنشر الأمن، وتشد علاقات الافراد بعضهم ببعض، وتقوي الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتنمي الثروة، وتزيد في الرخاء، وتدعم الاوضاع، فلا تتعرض لخلخلة أو اضطراب، ويمضي كل من الحاكم والمحكوم إلى غايته في العمل، والانتاج، وخدمة البلاد، دون أن يقف في طريقه ما يعطل نشاطه، أو يعوقه عن النهوض.
وإنما يتحقق العدل بإيصال كل حق إلى مستحقه والحكم بمقتضى ما شرع الله من أحكام ويتجنب الهوى بالقسمة بين الناس بالسوية.
وما كانت مهمة رسل الله إلا القيام بهذا الأمر وانفاذه.
وما كانت وظيفة أتباع الرسل إلا السير على هذا النهج كي تبقى النبوة تمد الناس بظلها الظليل {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}.

.القضاء في الإسلام:

ومن أهم الوسائل التي يتحقق بها القسط وتحفظ الحقوق وتصان الدماء والاعراض والأموال هي إقامة النظام القضائي الذي فرضه الإسلام وجعله جزءا من تعاليمه وركيزة من ركائزه التي لابد منها ولاغنى عنها.
وكان أول من تولى هذه الوظيفة في الإسلام الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاء في المعاهدة التي تمت بعد الهجرة بين المسلمين واليهود وغيرهم: إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله.
وقد أمره الله عز وجل أن يحكم بما أنزل فقال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما}...الخ.
وتولى قضاء مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد كما تولى علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - قضاء اليمن.
روى أهل السنن وغيرهم أن عليا لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا قال: يارسول الله، بعثتني بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء.
قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: «اللهم أهده وثبت لسانه».
قال علي: فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين.
وعن علي كرم الله وجهه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الاخر، كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء».

.فيم يكون القضاء:

والقضاء يكون في جميع الحقوق سواء أكانت حقوقا لله أم حقوقا للادميين.
وقد أفاد ابن خلدون أن منصب القضاء استقر آخر الأمر على أن يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أحوال المحجور عليهم من المجانين واليتام والمفلسين وأهل السفه.
وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الايامى عند فقد أوليائهن على رأي من يراه.
والنظر في مصالح الطرقات والابنية وتصفح الشهود والأمناء والنواب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجراح ليحصل له الوثوق بهم. وصارت هذه كلها من متعلقات وظيفته وتوابع ولايته ا.هـ.

.منزلة القضاء:

والقضاء فرض كفاية لدفع التظالم وفصل التخاصم ويجب على الحاكم أن ينصب للناس قاضيا ومن أبي أجبره عليه.
وإذا كان الإنسان في جهة لا يصلح للقضاء غيره تعين عليه ووجب عليه الدخول فيه.
وقد رغب الإسلام في الحكم بين الناس بالحق وجعله من الغبطة:
روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لاحسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس».
ووعد القاضي العادل بالجنة:
فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار».
وعن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان».
أما ما جاء من الأحاديث في التحذير من الدخول في القضاء مثل ما رواه سعيد المغبري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين». أي فقد تعرض لذبح نفسه وإهلاكها بتوليه القضاء.
فإنها ترجع إلى الاشخاص الذين لاعلم لهم بالحق ولا قدرة لهم على الصدع به ولا يتمكنون من ضبط أنفسهم ولا كبح جماحها ومنعها من الميل إلى الهوى.
والذي يرشد إلى هذا حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها».
وعن أبي موسى الاشعري قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما: يارسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عزوجل.
وقال الاخر مثل ذلك فقال: «إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا يحرص عليه».
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتغى القضاء، وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده».
والخوف من العجز عن القيام بالقضاء على الوجه الاكمل هو السبب في امتناع بعض الائمة عن الدخول في القضاء.
ومن طريف ما يروى في هذا: أن حياة بن شريح دعي إلى أن يتولى قضاء مصر. فلما عرض عليه الأمير امتنع فدعا له بالسيف. فلما رأى ذلك أخرج مفتاحا كان معه وقال: هذا مفتاح بيتي ولقد اشتقت إلى لقاء ربي. فلما رأى الأمير عزيمته تركه.